فصل: تفسير الآية رقم (70)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏65‏)‏‏}‏

هذا من نسق التذكير بنعم الله واقع موقه قوله ‏{‏ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 63‏]‏، فهو من عداد الامتنان والاستدلال، فكان كالتكرير للغرض، ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف‏.‏ وهذا تذكير بنعمة تسخير الحيوان وغيره‏.‏ وفيه إدماج الاستدلال على انفراده بالتسخير‏.‏ والتقدير‏:‏ فهو الرب الحق‏.‏

وجملة ‏{‏ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض‏}‏ مستأنفة كجملة ‏{‏ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 63‏]‏‏.‏

والخطاب هنا والاستفهام كلاهما كما في الآية السابقة‏.‏

والتسخير‏:‏ تسهيل الانتفاع بدون مانع وهو يؤذن بصعوبة الانتفاع لولا ذلك التسخير، وأصله تسهيل الانتفاع بما فيه إرادة التمنع مثل تسخير الخادم وتسهيل استخدام الحيوان الداجن من الخيل، والإبل، والبقر، والغنم ونحوها بأن جعل الله فيها طبع الخوف من الإنسان مع تهيئتها للإلف بالإنسان، ثم أطلق على تسهيل الانتفاع بما في طبعه أو في حاله ما يُعذّر الانتفاع به لولا ما ألهم الله إليه الإنسان من وسائل التغلّب عليها بتعرف نواميسه وأحواله وحركاته وأوقات ظهوره، وبالاحتيال على تملكه مثل صيد الوحش ومغاصات اللؤلؤ والمرجان، ومثل آلات الحفر والنقر للمعادن، ومثل التشكيل في صنع الفلك والعَجل، ومثل التركيب والتصهير في صنع البواخر والمزجيات والصياغة، ومثل الإرشاد إلى ضبط أحوال المخلوقات العظيمة من الشمس والقمر والكواكب والأنهار والأودية والأنواء والليل والنهار، باعتبار كون تلك الأحوال تظهر على وجه الأرض، وما لا يحْصَى مما ينتفع به الإنسان مما على الأرض فكل ذلك داخل في معنى التسخير‏.‏

وقد تقدم القول في التسخير آنفاً في هذه السورة‏.‏ وتقدّم في سورة الأعراف وسورة إبراهيم وغيرهما، وفي كلامنا هنا زيادة إيضاح لمعنى التسخير‏.‏

وجملة ‏{‏تجري في البحر بأمره‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏الفلك‏}‏ وإنما خصّ هذا بالذكر لأن ذلك الجري في البحر هو مظهر التسخير إذ لولا الإلهام إلى صنعها على الصفة المعلومة لكان حظها من البحر الغَرق‏.‏

وقوله ‏{‏بأمره‏}‏ هو أمر التكوين إذ جعل البحر صالحاً لحملها، وأوحى إلى نوح عليه السلام معرفة صنعها، ثم تتابع إلهام الصناع لزيادة اتقانها‏.‏

والإمساك‏:‏ الشدّ، وهو ضد الإلقاء‏.‏ وقد ضُمّن معنى المنع هنا وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يُمسك السماوات والأرض أن تزولا‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 41‏]‏ فيقدر حرف جر لتعدية فعل الإمساك بعد هذا التضمين فيقدر ‏(‏عن‏)‏ أو ‏(‏من‏)‏‏.‏

ومناسبة عطف إمساك السماوات على تسخير ما في الأرض وتسخير الفلك أن إمساك السماء عن أن تقع على الأرض ضرب من التسخير لما في عظمة المخلوقات السماوية من مقتضيات تغلّبها على المخلوقات الأرْضية وحطْمِها إياها لولا ما قدر الله تعالى لكل نوع منها من سُنن ونُظم تمنع من تسلط بعضها على بعض، كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون‏}‏

‏[‏يس‏:‏ 40‏]‏‏.‏ فكما سخّر الله للناس ما ظهر عل وجه الأرض من موجودات مع ما في طبع كثير منها من مقتضيات إتلاف الإنسان، وكما سخّر لهم الأحوال التي تبدو للناس من مظاهر الأفق مع كثرتها وسعتها وتباعدها، ومع ما في تلك الأحوال من مقتضيات تعذرّ الضبط، كذلك سخّر لمصلحة الناس ما في السماوات من الموجودات بالإمساك المنظم المنوط بما قدره الله كما أشار إليه قوله ‏{‏إلا بإذنه‏}‏ أي تقديره‏.‏

ولفظ ‏{‏السماء‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ويمسك السماء‏}‏ يجوز أن يكون بمعنى ما قابل الأرض في اصطلاح الناس فيكون كُلاً شاملاً للعوالم العلوية كلها التي لا نحيط بها علماً كالكواكب السيّارة وما الله أعلم به وما يكشفه للناس في متعاقب الأزمان‏.‏

ويكون وقوعها على الأرض بمعنى الخرور والسقوط فيكون المعنى‏:‏ أن الله بتدبير علمه وقدرته جعل للسماء نظاماً يمنعها من الخرور على الأرض، فيكون قوله ‏{‏ويمسك السماء‏}‏ امتناناً على الناس بالسلامة مما يُفسد حياتهم، ويكون قوله ‏{‏إلا بإذنه‏}‏ احتراساً جمعاً بين الامتنان والتخويف، ليكون الناس شاكرين مستزيدين من النعم خائفين من غضب ربّهم أن يأذن لبعض السماء بالوقوع على الأرض‏.‏ وقد أشكل الاستثناء بقوله ‏{‏إلا بإذنه‏}‏ فقيل في دفع الإشكال‏:‏ إن معناه إلا يوم القيامة يأذن الله لها في الوقوع على الأرض‏.‏ ولكن لم يرد في الآثار أنه يقع سُقوط السماء وإنما ورد تشقق السماء وانفطارها‏.‏ وفيما جعلنا ذلك احتراساً دفع للإشكال لأن الاحتراس أمر فرضي فلا يقتضي الاستثناء وقوع المستثنى‏.‏

ويجوز أن يكون لفظ ‏{‏السّماء‏}‏ بمعنى المطر، كقول معاوية بن مالك‏:‏

إذا نزَل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا

وقول زيد بن خالد الجهني في حديث «الموطأ»‏:‏ «صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على إثْر سَماء كانت من اللّيل»، فيكون معنى الآية‏:‏ أن الله بتقديره جعل لنزول المطر على الأرض مقادير قَدّر أسبابها، وأنه لو استمر نزول المطر على الأرض لتضرّر الناس فكان في إمساك نزوله باطّراد منة على الناس، وكان في تقدير نزوله عند تكوين الله إياه منة أيضاً‏.‏ فيكون هذا مشتملاً على ذكر نعمتين‏:‏ نعمة الغيث، ونعمة السلامة من طغيان المياه‏.‏

ويجوز أن يكون لفظ السماء قد أطلق على جميع الموجودات العلوية التي يشملها لفظ ‏{‏السماء‏}‏ الذي هو ما علا الأرض فأطلق على ما يحويه، كما أطلق لفظ الأرض على سكانها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 41‏]‏‏.‏ فالله يُمسك ما في السماوات من الشهب ومن كريات الأثير والزمهرير عن اختراق كرة الهواء، ويمسك ما فيها من القُوى كالمطر والبرَد والثلج والصواعق من الوقوع على الأرض والتحكك بها إلا بإذن الله فيما اعتاد الناس إذنه به من وقوع المطر والثلج والصواعق والشهب وما لم يعتادوه من تساقط الكواكب‏.‏

فيكون موقع ‏{‏ويمسك السماء‏}‏ بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والفلك تجري في البحر بأمره‏}‏ كموقع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه‏}‏ في ‏[‏سورة الجاثية‏:‏ 12- 13‏]‏‏.‏

ويكون في قوله ‏{‏إلا بإذنه‏}‏ إدماجاً بين الامتنان والتخويف‏:‏ فإن من الإذن بالوقوع على الأرض ما هو مرغوب للناس، ومنه ما هو مكروه، وهذا المحمل الثالث أجمع لما في المحملين الأخرين وأوجز، فهو لذلك أنسب بالإعجاز‏.‏

والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا بإذنه‏}‏ استثناء من عموم متعلقات فعل ‏{‏يمسك‏}‏ وملابسات مفعوله وهو كلمة ‏{‏السماء‏}‏ على اختلاف محامله، أي يمنع ما في السماء من الوقوع على الأرض في جميع أحواله إلا وقوعاً ملابساً لإذن من الله‏:‏ هذا ما ظهر لي في معنى الآية‏.‏

وقال ابن عطيّة‏:‏ «يحتمل أن يعود قوله ‏{‏إلا بإذنه‏}‏ على الإمساك لأن الكلام يقتضي بغير عَمَد ‏(‏أي يدل بدلالة الاقتضاء على تقدير هذا المتعلق أخذاً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بغير عمد ترونها‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 2‏]‏ ونحوه فكأنه أراد‏:‏ إلا بإذنه فيمسكها» اه‏.‏ يريد أن حرف الاستثناء قرينة على المحذوف‏.‏

والإذن حقيقته‏:‏ قول يُطلب به فعل شيء، واستعير هنا للمشيئة والتكوين، وهما متعلّق الإرادة والقدرة‏.‏

وقد استوعبت الآية العوالم الثلاثة‏:‏ البرّ، والبحر، والجوّ‏.‏

وموقع جملة ‏{‏إن الله بالناس لرؤوف رحيم‏}‏ موقع التعليل للتسخير والإمساككِ باعتبار الاستثناء لأن في جميع ذلك رأفة بالناس بتيسير منافعهم الذي في ضمنه دفع الضر عنهم‏.‏

والرؤوف‏:‏ صيغة مبالغة من الرأفة أو صفة مشبهة، وهي صفة تقتضي صرف الضر‏.‏

والرّحيم‏:‏ وصف من الرحمة، وهي صفة تقتضي النفع لمحتاجه‏.‏ وقد تتعاقب الصفتان، والجمع بينهما يفيد ما تختص به كل صفة منهما ويؤكد ما تجتمعان عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏

بعد أن أُدمج الاستدلال على البعث بالمواعظ والمنن والتذكير بالنعم أُعيد الكلام على البعث هنا بمنزلة نتيجة القياس، فذُكّر الملحدون بالحياة الأولى التي لا ريب فيها، وبالإماتة التي لا يرتابون فيها، وبأن بعد الإماتة إحياء آخر كما أخذ من الدلائل السابقة‏.‏ وهذا محل الاستدلال، فجملة ‏{‏وَهُوَ الذى أَحْيَاكُمْ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 65‏]‏ لأن صدر هذه من جملة النِعم فناسب أن تعطف على سابقتها المتضمنة امتناناً واستدلالاً كذلك‏.‏

‏{‏إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ‏}‏

تذييل يجمع المقصد من تعداد نعم المُنعم بجلائل النعم المقتضية انفراده باستحقاق الشكر واعتراف الخلق له بوحدانية الربوبية‏.‏

وتوكيد الخبر بحرف ‏(‏إنّ‏)‏ لتنزيلهم منزلة المنكر أنهم كفراء‏.‏

والتعريف في ‏{‏الإنسان‏}‏ تعريف الاستغراق العرفي المؤذن بأكثر أفراد الجنس من باب قولهم‏:‏ جمع الأمير الصاغة، أي صاغة بلده، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فجمع السحرة لميقات يوم معلوم‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وقد كان أكثر العرب يومئذ منكرين للبعث، أو أريد بالإنسان خصوص المشرك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏‏.‏

والكفور‏:‏ مبالغة في الكافر، لأنّ كفرهم كان عن تعنّت ومكابرة‏.‏

ويجوز كون الكفور مأخوذاً من كُفر النعمة وتكون المبالغةُ باعتبار آثار الغفلة عن الشكر، وحينئذ يكون الاستغراق حقيقياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ‏(‏67‏)‏‏}‏

هذا متصل في المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 34‏]‏ الآية‏.‏ وقد فُصل بين الكلامين ما اقتضى الحال استطراده من قوله‏:‏ ‏{‏وبشر المحسنين إن الله يدافع عن الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 3738‏]‏ إلى هنا، فعاد الكلام إلى الغرض الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 34‏]‏ الآية ليبنى عليه قوله‏:‏ ‏{‏فلا ينازعنك في الأمر‏}‏‏.‏ فهذا استدلال على توحيد الله تعالى بما سبق من الشرائع لقصد إبطال تعدد الآلهة، بأن الله ما جعل لأهل كلّ ملة سبقت إلا مَنسكاً واحداً يتقرّبون فيه إلى الله لأنّ المتقرّب إليه واحد‏.‏ وقد جعل المشركون مناسك كثيرة فلكلّ صنم بيت يذبح فيه مثل الغبغب للعُزّى، قال النّابغة‏:‏

وما هُريق على الأنصاب من جَسَد

‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏(‏أي دم‏)‏‏.‏ وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكل أمة جعلنا منسكاً ليذكُروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 34‏]‏ كما تقدم آنفاً‏.‏

فالجملة استئناف‏.‏ والمناسبة ظاهرة ولذلك فُصلت الجملة ولم تعْطف كما عطفت نظيرتها المتقدمة‏.‏

والمنسَك بفتح الميم وفتح السين‏:‏ اسم مكان النّسُك بضمهما كما تقدّم‏.‏ وأصل النُّسك العبادة ويطلق على القربان، فالمراد بالنسك هنا مواضع الحج بخلاف المراد به في الآية السابقة فهو موضع القربان‏.‏ والضمير في ‏{‏ناسكوه‏}‏ منصوب على نزع الخافض، أي ناسكون فيه‏.‏

وفي «الموطأ»‏:‏ «أن قريشاً كانت تقف عند المَشعر الحرام بالمزدلفة بقُزح، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعَرفة فكانوا يتجادلون يقول هؤلاء‏:‏ نحن أصوب، ويقول هؤلاء‏:‏ نحن أصوب، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه‏}‏ الآية، فهذا الجدال فيما نرى والله أعلم وقد سمعت ذلك من أهل العلم اه‏.‏

قال الباجي في «المنتقى»‏:‏ «وهو قول ربيعة»‏.‏ وهذا يقتضي أن أصحاب هذا التفسير يرون الآية قد نزلت بعد فرض الحج في الإسلام وقبل أن يمنع المشركون منه، أي نزلت في سنة تسع، والأظهر خلافه كما تقدم في أول السورة‏.‏

وفرّع على هذا الاستدلال أنهم لم تبق لهم حجة ينازعون بها النبي صلى الله عليه وسلم في شأن التوحيد بعد شهادة الملل السابقة كلها، فالنهي ظاهره موجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما أعطيه من الحجج كاففٍ في قطع منازعة معارضيه، فالمعارضون هم المقصود بالنهي، ولكن لما كان سبب نهيهم هو ما عند الرسول صلى الله عليه وسلم من الحجج وُجه إليه النهي عن منازعتهم إياه كأنه قيل‏:‏ فلا تترك لهم ما ينازعونك به، وهو من باب قول العرب‏:‏ لا أعْرِفَنّك تفعل كذا، أي لا تَفْعل فأعرِفك، فجعل المتكلم النهي موجهاً إلى نفسه، والمراد نهي السامع عن أسبابه، وهو نهي للغير بطريق الكناية‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ هو نهي للرسول عن منازعتهم لأن صيغة المفاعلة تقتضي حصول الفعل من جانبي فاعله ومفعوله، فيصحّ نهي كل من الجانبين عنه‏.‏ وإنما أسند الفعل هنا لضمير المشركين مبالغة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن منازعته إياهم التي تفضي إلى منازعتهم إياه فيكون النهي عن منازعته إياهم كإثبات الشيء بدليله‏.‏ وحاصل معنى هذا الوجه أنه أمر للرسول بالإعراض عن مجادلتهم بعدما سيق لهم من الحجج‏.‏

واسم ‏{‏الأمر‏}‏ هنا مجمل مراد به التوحيدُ بالقرينة، ويحتمل أن المشركين كانوا ينازعون في كونهم على ضلال بأنهم على ملّة إبراهيم وأن النبي صلى الله عليه وسلم قرر الحَجّ الذي هو من مناسكهم، فجعلوا ذلك ذريعة إلى ادعاء أنهم على الحق وملّة إبراهيم، فكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه‏}‏ كشفاً لشبهتهم بأن الحج منسك حقّ، وهو رمز التوحيد، وأن ما عداه باطل طارئ عليه فلا ينازعُنّ في أمر الحجّ بعد هذا‏.‏ وهذا المحمل هو المناسب لتناسق الضمائر العائدة على المشركين مما تقدم إلى قوله ‏{‏وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 72‏]‏، ولأن هذه السورة نزل بعضها بمكة في آخر مُقام النبي صلى الله عليه وسلم بها وبالمدينة في أول مُقامه بها فلا منازعة بين النبي وبين أهل الكتاب يومئذ، فيبعد تفسيرُ المنازعة بمنازعة أهل الكتاب‏.‏

وقوله ‏{‏وادع إلى ربك‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فلا ينازعنك في الأمر‏}‏‏.‏ عطف على انتهاء المنازعة في الدين أمرٌ بالدوام على الدعوة وعدم الاكتفاء بظهور الحجّة لأن المُكابرة تجافي الاقتناع، ولأنّ في الدوام على الدعوة فوائد للناس أجمعين، وفي حذف مفعول ‏{‏ادع‏}‏ إيذان بالتعميم‏.‏

وجملة ‏{‏إنك لعلى هدى مستقيم‏}‏ تعليل للدوام على الدعوة وأنها قائمة مقام فاء التعليل لا لردّ الشك‏.‏ و‏{‏على‏}‏ مستعارة للتمكن من الهدى‏.‏

ووصف الهدى بالمستقيم استعارة مكنية؛ شبه الهُدى بالطريق الموصل إلى المطلوب ورُمز إليه بالمستقيم لأن المستقيم أسرع إيصالاً، فدين الإسلام أيسر الشرائع في الإيصال إلى الكمال النفساني الذي هو غاية الأديان‏.‏ وفي هذا الخبر تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم وتجديد لنشاطه في الاضطلاع بأعباء الدعوة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏68‏)‏ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏فلا ينازعنك في الأمر‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 67‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ إن تبيّن عدم اقتناعهم بالأدلة التي تقطع المنازعة وأبوا إلا دوام المجادلة تشغيباً واستهزاء فقل‏:‏ الله أعلم بما تعملون‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏الله أعلم بما تعملون‏}‏ تفويض أمرهم إلى الله تعالى، وهو كناية عن قطع المجادلة معهم، وإدماج بتعريض بالوعيد والإنذار بكلام موجّه صالح لما يتظاهرون به من تطلب الحجّة‏:‏ ولما في نفوسهم من إبطان العناد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 30‏]‏‏.‏

والمراد ب ‏{‏ما تعملون‏}‏ ما يعملونه من أنواع المعارضة والمجادلة بالباطل ليُدحضوا به الحق وغير ذلك‏.‏

وجملة ‏{‏الله يحكم بينكم يوم القيامة‏}‏ كلام مستأنف ليس من المقول، فهو خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وليس خطاباً للمشركين بقرينة قوله ‏{‏بينكم‏.‏‏}‏ والمقصود تأييد الرسول والمؤمنين‏.‏

وما كانوا فيه يختلفون‏:‏ هو ما عبر عنه بالأمر في قوله ‏{‏فلا ينازعنك في الأمر‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 67‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏70‏)‏‏}‏

استئناف لزيادة تحقيق التأييد الذي تضمنه قوله ‏{‏الله يحكم بينكم يوم القيامة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 69‏]‏، أي فهو لا يفوته شيء من أعمالكم فيجازي كلاً على حساب عمله، فالكلام كناية عن جزاء كل بما يليق به‏.‏

و ‏{‏ما في السماء والأرض‏}‏ يشمل ما يعمله المشركون وما كانوا يخالفون فيه‏.‏

والاستفهام إنكاري أو تقريري، أي أنك تعلم ذلك، وهذا الكلام كناية عن التسلية أي فلا تضق صدراً مما تلاقيه منهم‏.‏

وجملة ‏{‏إن ذلك في كتاب‏}‏ بيان للجملة قبلها، أي يعلم ما في السماء والأرض علماً مفصلاً لا يختلف، لأنّ شأن الكتاب أن لا تتطرق إليه الزيادة والنُقصان‏.‏

واسم الإشارة إلى العمل في قوله ‏{‏الله أعلم بما تعملون‏}‏ أو إلى ‏(‏مَا‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما كنتم فيه تختلفون‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 69‏]‏‏.‏

والكتاب هو ما به حفظ جميع الأعمال‏:‏ إما على تشبيه تمام الحفظ بالكتابة، وإما على الحقيقة، وهو جائز أن يجعل الله لذلك كتاباً لائقاً بالمغيبات‏.‏

وجملة ‏{‏إن ذلك على الله يسير‏}‏ بيان لمضمون الاستفهام من الكتابة عن الجزاء‏.‏

واسم الإشارة عائد إلى مضمون الاستفهام من الكناية فتأويله بالمذكور‏.‏ ولك أن تجعلها بياناً لجملة ‏{‏يعلم ما في السماء والأرض‏}‏ واسم الإشارة عائد إلى العلم المأخوذ من فعل ‏{‏يعلم،‏}‏ أي أن علم الله بما في السماء والأرض لله حاصل دون اكتساب، لأن علمه ذاتي لا يحتاج إلى مطالعة وبحث‏.‏

وتقديم المجرور على متعلّقه وهو ‏{‏يسير‏}‏ للاهتمام بذكره للدلالة على إمكانة في جانب علم الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏71‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون الواو حرف عطف وتكون الجملة معطوفة على الجملة السابقة بما تفرّع عليها عطف غرض على غرض‏.‏

ويجوز أن يكون الواو للحال والجملة بعدها حالاً من الضمير المرفوع في قوله ‏{‏جادلوك‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 68‏]‏، والمعنى‏:‏ جادلوك في الدين مستمرين على عبادة ما لا يستحق العبادة بعدما رأوا من الدلائل، وتتضمن الحال تعجيباً من شأنهم في مكابرتهم وإصرارهم‏.‏

والإتيان بالفعل المضارع المفيد للتجدّد على الوجهين لأن في الدلائل التي تحفّ بهم والتي ذُكّروا ببعضها في الآيات الماضية ما هو كاف لإقلاعهم عن عبادة الأصنام لو كانوا يريدون الحق‏.‏

و ‏{‏من دون‏}‏ يفيد أنهم يُعرضون عن عبادة الله، لأن كلمة ‏{‏دون‏}‏ وإن كانت اسماً للمباعَدة قد يصدق بالمشاركة بين ما تضاف إليه وبين غيره‏.‏ فكلمة ‏(‏دون‏)‏ إذا دخلت عليها ‏(‏مِن‏)‏ صارت تفيد معنى ابتداء الفعل من جانب مباعد لما أضيف إليه ‏(‏دون‏)‏‏.‏ فاقتضى أن المضاف إليه غيرُ مشارك في الفعل‏.‏ فوجه ذلك أنهم لما أشربت قلوبهم الإقبال على عبادة الأصنام وإدخالها في شؤون قرباتهم حتى الحج إذ قد وضعوا في شعائره أصناماً بعضها وضعوها في الكعبة وبعضها فوق الصفا والمروة جعلوا كالمعطلين لعبادة الله أصلاً‏.‏

والسلطان‏:‏ الحجة‏.‏ والحجة المنزّلة‏:‏ هي الأمر الإلهي الوارد على ألْسنة رسله وفي شرائعه، أي يعبدون ما لا يجدون عذراً لعبادته من الشرائع السالفة‏:‏ وقصارى أمرهم أنهم اعتذروا بتقدم آبائهم بعبادة أصنامهم، ولم يدّعوا أن نبيئاً أمر قومه بعبادة صنم ولا أن ديناً إلهياً رخص في عبادة الأصنام‏.‏

و ‏{‏ما ليس لهم به علم‏}‏، أي ليس لهم به اعتقاد جازم لأنّ الاعتقاد الجازم لا يكون إلاّ عن دليل، والباطل لا يمكن حصول دليل عليه‏.‏ وتقديم انتفاء الدليل الشرعي على انتفاء الدليل العقلي لأنّ الدليل الشرعي أهمّ‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ التي في قوله ‏{‏وما للظالمين من نصير‏}‏ نافية‏.‏ والجملة عطف على جملة ‏{‏ويعبدون من دون الله‏}‏ أي يَعبدون ما ذكر وما لهم نصير فلا تنفعهم عبادة الأصنام‏.‏ فالمراد بالظالمين المشركون المتحدّث عنهم، فهو من الإظهار في مقام الإضمار للإيماء إلى أن سبب انتفاء النصير لهم هو ظلمهم، أي كفرهم‏.‏ وقد أفاد ذلك ذهاب عبادتهم الأصنام باطلاً لأنهم عبدوها رجاء النصر‏.‏ ويفيد بعمومه أن الأصنام لا تنصرهم فأغنى عن موصول ثالث هو من صفات الأصنام كأنه قيل‏:‏ وما لا ينصرهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 197‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر يكادون يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏‏.‏

عطف على جملة ‏{‏ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 71‏]‏ لبيان جُرم آخر من أجرامهم مع جُرم عبادة الأصنام، وهو جرم تكذيب الرسول والتكذيب بالقرآن‏.‏

والآيات هي القرآن لا غيره من المعجزات لقوله ‏{‏وإذا تتلى عليهم‏}‏‏.‏

والمنكر‏:‏ إما الشيء الذي تُنكره الأنظار والنفوس فيكون هنا اسماً، أي دلائل كراهيتهم وغضبهم وعزمهم على السوء، وإما مصدر ميمي بمعنى الإنكار كالمُكْرم بمعنى الإكرام‏.‏ والمَحْملان آيلان إلى معنى أنهم يلوح على وجوههم الغَيْظ والغضب عندما يُتلى عليهم القرآن ويُدعون إلى الإيمان‏.‏ وهذا كناية عن امتلاء نفوسهم من الإنكار والغيظ حتى تجاوز أثرُه بواطنهم فظهر على وجوههم‏.‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تعرف في وجوههم نضرة النعيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 24‏]‏ كناية عن وفرة نعيمهم وفرط مسرّتهم به‏.‏ ولأجل هذه الكناية عدل عن التصريح بنحو‏:‏ اشتدّ غيظهم، أو يكادون يتميزون غيظاً، ونحو قوله‏:‏ ‏{‏قلوبهم منكرة وهم مستكبرون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وتقييد الآيات بوصف البينات لتفظيع إنكارها إياها، إذ ليس فيها ما يعذر به منكروها‏.‏

والخطاب في قوله ‏{‏تعرف‏}‏ لكلّ من يصلح للخطاب بدليل قوله ‏{‏بالذين يتلون عليهم آياتنا‏}‏‏.‏

والتعبير ب ‏{‏الذين كفروا‏}‏ إظهار في مقام الإضمار‏.‏ ومقتضى الظاهر أن يكون ‏{‏تعرف في وجوه الذين كفروا‏}‏، أي وجوه الذين يعبدون من دون الله ما لم يُنزّل به سلطاناً، فخولف مقتضى الظاهر للتسجيل عليهم بالإيماء إلى أن علّة ذلك هو ما يبطنونه من الكفر‏.‏

والسُّطُوّ‏:‏ البطش، أي يقاربون أن يصولوا على الذين يتلون عليهم الآيات من شدّة الغضب والغيظ من سماع القرآن‏.‏

‏{‏والذين يتلون‏}‏ يجوز أن يكون مراداً به النبي صلى الله عليه وسلم من إطلاق اسم الجمع على الواحد كقوله‏:‏ ‏{‏وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 37‏]‏، أي كذّبوا الرسول‏.‏

ويجوز أن يراد به من يقرأ عليهم القرآن من المسلمين والرسول، أما الذين سطوا عليهم من المؤمنين فلعلهم غير الذين قرأوا عليهم القرآن، أو لعلّ السطو عليهم كان بعد نزول هذه الآية فلا إشكال في ذكر فعل المقاربة‏.‏

وجملة ‏{‏يكادون يسطون‏}‏ في موضع بدل الاشتمال لجملة ‏{‏تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر‏}‏ لأن الهمّ بالسطو مما يشتمل عليه المنكر‏.‏

‏{‏قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ وَبِئْسَ المصير‏}‏

استئناف ابتدائي يفيد زيادة إغاظتهم بأن أمرَ الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم ما يفيد أنهم صائرون إلى النار‏.‏

والتفريع بالفاء ناشئ من ظهور أثر المنكر على وجوههم فجعل دلالة ملامحهم بمنزلة دلالة الألفاظ‏.‏ ففرع عليها ما هو جواب عن كلام فيزيدهم غيظاً‏.‏

ويجوز كون التفريع على التلاوة المأخوذة من قوله ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا‏}‏، أي اتل عليهم الآيات المنذرة والمبيّنة لكفرهم، وفرع عليها وعيدهم بالنار‏.‏

والاستفهام مستعمل في الاستئذان، وهو استئذان تهكمي لأنه قد نبأهم بذلك دون أن ينتظر جوابهم‏.‏

وشرّ‏:‏ اسم تفضيل، أصله أشرّ‏:‏ كثر حذف الهمزة تخفيفاً، كما حذفت في خير بمعنى أخير‏.‏

والإشارة ب ‏{‏ذلكم‏}‏ إلى ما أثار مُنكَرهم وحفيظتهم، أي بما هو أشد شرّاً عليكم في نفوسكم مما سمعتموه فأغضبكم، أي فإن كنتم غاضبين لما تُلي عليكم من الآيات فازدادوا غضباً بهذا الذي أنَبّئكم به‏.‏

وقوله ‏{‏النّار‏}‏ خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله ‏{‏بشر من ذلكم‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ شرّ من ذلكم النّارُ‏.‏

فالجملة استئناف بياني، أي إن سألتم عن الذي هو أشدّ شراً فاعلموا أنه النار‏.‏

وجملة ‏{‏وعدها الله‏}‏ حال من النّار، أو هي استئناف‏.‏

والتعبير عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ إظهار في مقام الإضمار، أي وعدها الله إياكم لكفركم‏.‏

‏{‏وبئس المصير‏}‏ أي بئس مصيرهم هي، فحرف التعريف عوض عن المضاف إليه، فتكون الجملة إنشاء ذمّ معطوفة على جملة الحال على تقدير القول‏.‏ ويجوز أن يكون التعريف للجنس فيفيد العموم، أي بئس المصير هي لمن صار إليها، فتكون الجملة تذييلاً لما فيها من عموم الحكم للمخاطبين وغيرهم وتكون الواو اعتراضية تذييلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ‏(‏73‏)‏‏}‏

أعقبت تضاعيف الحجج والمواعظ والإنذارات التي اشتملت عليها السورة مما فيه مقنع للعلم بأن إله الناس واحد وأن ما يُعبد من دونه باطل، أعقبت تلك كلها بمثَل جامع لوصف حال تلك المعبودات وعابديها‏.‏

والخطاب ب ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ للمشركين لأنهم المقصود بالردّ والزجر وبقرينة قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون‏}‏ على قراءة الجمهور ‏{‏تدعون‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏

فالمراد ب ‏{‏الناس‏}‏ هنا المشركون على ما هو المصطلح الغالب في القرآن‏.‏ ويجوز أن يكون المراد ب ‏{‏الناس‏}‏ جميعَ الناس من مسلمين ومشركين‏.‏

وفي افتتاح السورة ب ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ وتنهيتها بمثل ذلك شبه بردّ العجز على الصدر‏.‏ ومما يزيده حسناً أن يكون العجز جامعاً لما في الصدر وما بَعده، حتى يكون كالنتيجة للاستدلال والخلاصةِ للخطبة والحَوصلة للدرس‏.‏

وضرب المثل‏:‏ ذِكرهُ وبيانُه؛ استعير الضرب للقول والذكر تشبيهاً بوضع الشيء بشدّة، أي ألقي إليكم مثَل‏.‏ وتقدم بيانه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن يضرب مثلاً ما‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وبني فعل ‏{‏ضُرب‏}‏ بصيغة النائب فلم يذكر له فاعل بعكس ما في المواضع الأخرى التي صُرّح فيها بفاعل ضَرْب المثل نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 26‏]‏ و‏{‏ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً‏}‏ في ‏[‏سورة النحل‏:‏ 75‏]‏ و‏{‏ضرب الله مثلاً رجلاً‏}‏ في ‏[‏سورة الزمر‏:‏ 29‏]‏ و‏{‏ضرب الله مثلاً رجلين‏}‏ في ‏[‏سورة النحل‏:‏ 76‏]‏‏.‏ إذ أسند في تلك المواضع وغيرها ضَرب المثل إلى الله، ونحو قوله‏:‏ ‏{‏فلا تضربوا لله الأمثال‏}‏ في ‏[‏سورة النحل‏:‏ 74‏]‏‏.‏ و‏{‏ضرب لنا مثلاً ونسي خلقه‏}‏ في ‏[‏سورة يس‏:‏ 78‏]‏، إذ أسند الضرب إلى المشركين، لأنّ المقصود هنا نسج التركيب على إيجاز صالح لإفادة احتمالين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يقدّر الفاعل الله تعالى وأن يكون المثَل تشبيهاً تمثيلياً، أي أوضح الله تمثيلاً يوضح حال الأصنام في فرط العجز عن إيجاد أضعف المخلوقات كما هو مشاهد لكلّ أحد‏.‏

والثاني‏:‏ أن يقدّر الفاعل المشركين ويكون المثَل بمعنى المُماثل، أي جعلوا أصنامهم مُماثلة لله تعالى في الإلهية‏.‏

وصيغة الماضي في قوله ‏{‏ضُرب‏}‏ مستعملة في تقريب زَمن الماضي من الحال على الاحتمال الأول، نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 9‏]‏، أي لو شارفوا أن يَتركوا، أي بعد الموت‏.‏

وجملة ‏{‏إن الذين تدعون من دون الله‏}‏ إلى آخرها يجوز أن تكون بياناً لفعل ‏{‏ضُرب‏}‏ على الاحتمال الأول في التقدير، أي بين تمثيل عجيب‏.‏

ويجوز أن تكون بياناً للفظ ‏{‏مثَل‏}‏ لما فيها من قوله‏:‏ ‏{‏تدعون من دون الله‏}‏ على الاحتمال الثاني‏.‏

وفرع على ذلك المعنى من الإيجاز قوله‏:‏ ‏{‏فاستمعوا له‏}‏ لاسترعاء الأسماع إلى مُفاد هذا المثَل مما يبطل دعوى الشركة لله في الإلهية، أي استمعوا استماع تَدبّر‏.‏

فصيغة الأمر في ‏{‏استمعوا له‏}‏ مستعملة في التحريض على الاحتمال الأول، وفي التعجيب على الاحتمال الثاني‏.‏ وضمير ‏{‏له‏}‏ عائد على المثَل على الاحتمال الأول لأنّ المثل على ذلك الوجه من قبيل الألفاظ المسموعة، وعائدٌ على الضّرب المأخوذ من فعل ‏{‏ضُرب‏}‏ على الاحتمال الثاني على طريقة

‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏، أي استمعوا للضرب، أي لما يدلّ على الضرب من الألفاظ، فيقدر مُضاف بقرينة ‏{‏استمعوا‏}‏ لأن المسموع لا يكون إلاّ ألفاظاً، أي استمعوا لما يدلّ على ضرب المثل المتعجّب منه في حماقة ضاربيه‏.‏

واستعملت صيغة الماضي في ‏{‏ضُرب‏}‏ مع أنه لمَّا يُقَلْ لتقريب زمن الماضي من الحال كقوله‏:‏ ‏{‏لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 9‏]‏، أي لو قاربوا أن يتركوا، وذلك تنبيه للسامعين بأن يتهيأوا لتلقي هذا المثل، لما هو معروف لدى البلغاء من استشرافهم للأمثال ومواقعها‏.‏

والمَثل‏:‏ شاع في تشبيه حالة بحالة، كما تقدّم في قوله ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً‏}‏ في ‏[‏سورة البقرة‏:‏ 17‏]‏، فالتشبيه في هذه الآية ضمني خفيّ ينبئ عنه قوله‏:‏ ‏{‏ولو اجتمعوا له‏}‏ وقوله ‏{‏لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب‏}‏‏.‏ فشُبهت الأصنام المتعددة المتفرقة في قبائل العرب وفي مكّة بالخصوص بعظماء، أي عند عابديها‏.‏ وشبهت هيئتها في العجز بهيئة ناس تعذّر عليهم خلق أضعف المخلوقات، وهو الذباب، بلْهَ المخلوقات العظيمة كالسماوات والأرض‏.‏ وقد دلّ إسناد نفي الخلق إليهم على تشبيههم بذوي الإرادة لأنّ نفي الخلق يقتضي محاولة إيجاده، وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أموات غير أحياء‏}‏ كما تقدم في ‏[‏سورة النحل‏:‏ 21‏]‏‏.‏ ولو فرض أن الذباب سلبهم شيئاً لم يستطيعوا أخذه منه، ودليل ذلك مشاهدة عدم تحركهم، فكما عجزت عن إيجاد أضعف الخلق وعن دفع أضعف المخلوقات عنها فكيف تُوسم بالإلهية، ورمز إلى الهيئة المشبه بها بذكر لوازم أركان التشبيه من قوله ‏{‏لن يخلقوا‏}‏ وقوله ‏{‏وإن يسلبهم الذباب شيئاً‏}‏ إلى آخره، لا جرم حصل تشبيه هيئة الأصنام في عجزها بما دون هيئة أضعف المخلوقات فكانت تمثيلية مكنية‏.‏

وفسر صاحب «الكشاف» المثل هنا بالصفة الغريبة تشبيهاً لما ببعض الأمثال السائرة‏.‏ وهو تفسير بما لا نظير له ولا استعمال يعضده اقتصاداً منه في الغوص عن المعنى لا ضُعفاً عن استخراج حقيقة المثل فيها وهو جُذَيعُها المحكّك وعُذيقها المرجب ولكن أحسبه صادف منه وقت سرعة في التفسير أو شغلاً بأمر خطير، وكم ترك الأول للأخير‏.‏

وفرع على التهيئة لتلقي هذا المثل الأمر بالاستماع له وإلقاء الشراشر لوعيه وترقب بيان إجماله توخيّاً للتفطّن لما يتلى بعد‏.‏

وجملة ‏{‏إن الذين تدعون‏}‏ الخ بيان ل ‏{‏مثل‏}‏ على كلا الاحتمالين السابقين في معنى ‏{‏ضرِب مَثل‏}‏، فإن المثَل في معنى القول فصحّ بيانه بهذا الكلام‏.‏

وأكد إثبات الخبر بحرف توكيد الإثبات وهو ‏(‏إن‏)‏، وأكد ما فيه من النفي بحرف توكيد النفي ‏(‏لَن‏)‏ لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين لمضمون الخبر، لأنّ جعلهم الأصنام آلهة يقتضي إثباتهم الخلق إليها وقد نفي عنها الخلق في المستقبل لأنه أظهر في إقحام الذين ادعوا لها الإلهية لأنّ نفي أن تخلق في المستقبل يقتضي نفي ذلك في الماضي بالأحرى لأن الذي يفعل شيئاً يكون فعله من بعد أيسر عليه‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏تَدْعُون‏}‏ بتاء الخطاب على أن المراد بالنّاس في قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ خصوصَ المشركين‏.‏ وقرأه يعقوب بياء الغيبة على أن يقصد ب ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ جميع الناس وأنّهم عُلِموا بحال فريق منهم وهم أهل الشرك‏.‏ والتقدير‏:‏ إن الذين يدعون هم فريق منكم‏.‏

والذّباب‏:‏ اسم جمععِ ذبابة، وهي حشرة طائرة معروفة، وتجمع على ذِبّان بكسر الذال وتشديد النون ولا يُقال في العربية للواحدة ذِبّانة‏.‏

وذكر الذّباب لأنه من أحقر المخلوقات التي فيها الحياة المشاهدة‏.‏ وأما ما في الحديث في المصورين قال الله تعالى‏:‏ «فليخلقوا حبة وليخلقوا ذرة» فهو في سياق التعجيز لأنّ الحبّة لا حياة فيها والذرة فيها حياة ضعيفة‏.‏

وموقع ‏{‏لو اجتمعوا له‏}‏ موقع الحال، والواو واو الحال، و‏(‏لو‏)‏ فيه وصلية‏.‏ وقد تقدّم بيان حقيقتها عند قوله‏:‏ ‏{‏فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به‏}‏ في ‏[‏سورة آل عمران‏:‏ 91‏]‏‏.‏ أي لن يستطيعوا ذلك الخلق وهم مفترقون، بل ولو اجتمعوا من مفترق القبائل وتعاونوا على خلق الذباب لن يخلقوه‏.‏

والاستنقاذ‏:‏ مبالغة في الإنقاذ مثل الاستحياء والاستجابة‏.‏

وجملة ‏{‏ضعف الطالب والمطلوب‏}‏ تذييل وفذلكة للغرض من التمثيل، أي ضعف الداعي والمدعو، إشارة إلى قوله‏:‏ ‏{‏إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً‏}‏ الخ، أي ضعفتم أنتم في دعوتهم آلهة وضعفت الأصنام عن صفات الإله‏.‏

وهذه الجملة كلام أرسل مثلاً، وذلك من بلاغة الكلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏

تذييل للمثل بأن عبادتهم الأصنام مع الله استخفاف بحق إلهيته تعالى إذ أشركوا معه في أعظم الأوصاف أحقر الموصوفين، وإذ استكبروا عند تلاوة آياته تعالى عليهم، وإذ هموا بالبطش برسوله‏.‏

والقَدر‏:‏ العظمة، وفعل قَدر يفيد أنه عامل بقَدره‏.‏ فالمعنى‏:‏ ما عظموه حق تعظيمه إذ أشركوا معه الضعفاء العجز وهو الغالب القوي‏.‏ وقد تقدّم تفسيره في قوله ‏{‏وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ في ‏[‏سورة الأنعام‏:‏ 91‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله لقوي عزيز‏}‏ تعليل لمضمون الجملة قبلها، فإن ما أشركوهم مع الله في العبادة كل ضعيف ذليل فما قدروه حق قدره لأنه قوي عزيز فكيف يشاركه الضعيف الذليل‏.‏ والعدول عن أن يقال‏:‏ ما قَدرتم الله حقّ قدره، إلى أسلوب الغيبة، التفات تعريضاً بهم بأنّهم ليسوا أهلاً للمخاطبة توبيخاً لهم، وبذلك يندمج في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله لقوي عزيز‏}‏ تهديد لهم بأنه ينتقم منهم على وقاحتهم‏.‏

وتوكيد الجملة بحرف التوكيد ولام الابتداء مع أن مضمونها مما لا يختلف فيه لتنزيل علمهم بذلك منزلة الإنكار لأنهم لم يَجروا على موجَب العلم حين أشركوا مع القوي العزيز ضعفاء أذلة‏.‏

والقويّ‏:‏ من أسمائه تعالى‏.‏ وهو مستعمل في القدرة على كلّ مراد له‏.‏ والعزيز‏:‏ من أسمائه، وهو بمعنى‏:‏ الغالب لكلّ معاند‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏75‏)‏‏}‏

لما نفَت الآيات السابقة أن يكون للأصنام التي يعبدها المشركون مزية في نصرهم بقوله‏:‏ ‏{‏وما للظالمين من نصير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 71‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏ضعف الطالب والمطلوب‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 73‏]‏ ونعى على المشركين تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله‏:‏ ‏{‏يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 72‏]‏، وقد كان من دواعي التكذيب أنهم أحالوا أن يأتيهم رسول من البشر‏:‏ ‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 8‏]‏ أي يصاحبه، ‏{‏وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏ أعقب إبطال أقوالهم بأن الله يصطفي من شاء اصطفاءه من الملائكة ومن الناس دون الحجارة، وأنه يصطفيهم ليرسلهم إلى الناس، أي لا ليكونوا شركاء، فلا جرح أبطلَ قولُه ‏{‏الله يصطفي من الملائكة رسلاً من الناس‏}‏ جميعَ مزاعمهم في أصنامهم‏.‏

فالجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة ما علمت‏.‏

وتقديم المسند إليه وهو اسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله ‏{‏الله يصطفي‏}‏ دون أن يقول‏:‏ نصطفي، لإفادة الاختصاص، أي الله وحده هو الذي يصطفي لا أنتم تصطفون وتنسبون إليه‏.‏

والإظهار في مقام الإضمار هنا حيث لم يقل‏:‏ هو يصطفي من الملائكة رسلاً، لأن اسم الجلالة أصله الإله، أي الإله المعروف الذي لا إله غيره، فاشتقاقه مشير إلى أن مسماه جامع كل الصفات العلى تقريراً للقوّة الكاملة والعزّة القاهرة‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله سميع بصير‏}‏ تعليل لمضمون جملة ‏{‏الله يصطفي‏}‏ لأن المحيط علمه بالأشياء هو الذي يختص بالاصطفاء‏.‏ وليس لأهل العقول ما بلغت بهم عقولهم من الفطنة والاختيار أن يطلعوا على خفايا الأمور فيصطفوا للمقامات العليا من قد تخفَى عنهم نقائصهم بله اصطفاء الحجارة الصمّاء‏.‏

والسميع البصير‏:‏ كناية عن عموم العلم بالأشياء بحسب المتعارف في المعلومات أنها لا تعدو المسموعات والمبصرات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏76‏)‏‏}‏

جملة مقرِّرة لمضمون جملة ‏{‏إن الله سميع بصير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 75‏]‏ وفائدتها زيادة على التقرير أنها تعريض بوجوب مراقبتهم ربَّهم في السر والعلانية لأنه لا تخفى عليه خافية‏.‏

و ‏{‏ما بين أيديهم‏}‏ مستعار لما يظهرونه، ‏{‏وما خلفهم‏}‏ هو ما يخفونه لأن الشيء الذي يظهره صاحبه يجعله بين يديه والشيء الذي يُخفيه يجعله وراءه‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏ما بين أيديهم‏}‏ مستعاراً لما سيكون من أحوالهم لأنها تشبه الشيء الذي هو تجاه الشخص وهو يمشي إليه، ‏{‏وما خلفهم‏}‏ مستعاراً لما مضى وعبَر من أحوالهم لأنها تشبه ما تركه السائر وراءه وتجاوزه‏.‏

وضمير ‏{‏أيديهم‏}‏ و‏{‏خلفهم‏}‏ عائدان‏:‏ إما إلى المشركين الذين عاد إليهم ضمير ‏{‏فلا ينازعنك في الأمر‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 67‏]‏، وإما إلى الملائكة والناس‏.‏ وإرجاع الأمور إرجاع القضاء في جزائها من ثواب وعقاب إليه يوم القيامة‏.‏

وبني فعل ‏{‏تُرجع‏}‏ إلى النائب لظهور من هو فاعل الإرجاع فإنه لا يليق إلاّ بالله تعالى، فهو يُمهل الناس في الدنيا وهو يُرجع الأمور إليه يوم القيامة‏.‏

وتقديم المجرور لإفادة الحصر الحقيقي، أي إلى الله لا إلى غيره يرجع الجزاء لأنه ملك يوم الدين‏.‏ والتعريف في ‏{‏الأمور‏}‏ للاستغراق، أي كل أمر‏.‏ وذلك جمع بين البشارة والنذارة تبعاً لما قبله من قوله‏:‏ ‏{‏يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

لما كان خطاب المشركين فاتحاً لهذه السورة وشاغلاً لمعظمها عدَا ما وقع اعتراضاً في خلال ذلك، فقد خوطب المشركون ب ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ أربع مرات، فعند استيفاء ما سيق إلى المشركين من الحجج والقوارع والنداء على مساوي أعمالهم، خُتمت السورة بالإقبال على خطاب المؤمنين بما يُصلح أعمالهم وينوّه بشأنهم‏.‏

وفي هذا الترتيب إيماء إلى أن الاشتغال بإصلاح الاعتقاد مقدم على الاشتغال بإصلاح الأعمال‏.‏

والمراد بالركوع والسجود الصلوات‏.‏ وتخصيصهما بالذكر من بين أعمال الصلاة لأنهما أعظم أركان الصلاة إذ بهما إظهار الخضوع والعبودية‏.‏ وتخصيص الصلاة بالذكر قبل الأمر ببقية العبادات المشمولة لقوله ‏{‏واعبدوا ربكم‏}‏ تنبيه على أنّ الصلاة عماد الدين‏.‏

والمراد بالعبادة‏:‏ ما أمر الله النّاس أن يتعبدوا به مثل الصيام والحج‏.‏

وقوله ‏{‏وافعلوا الخير‏}‏ أمر بإسداء الخير إلى الناس من الزكاة، وحسن المعاملة كصلة الرّحِم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسائر مكارم الأخلاق، وهذا مجمل بينته وبينت مراتبه أدلة أخرى‏.‏

والرجاء المستفاد من ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ مستعمل في معنى تقريب الفلاح لهم إذا بلغوا بأعمالهم الحدّ الموجب للفلاح فيما حدّد الله تعالى، فهذه حقيقة الرجاء‏.‏ وأما ما يستلزمه الرجاء من تردّد الراجي في حصول المرجو فذلك لا يخطر بالبال لقيام الأدلة التي تُحِيل الشكّ على الله تعالى‏.‏

واعلم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا‏}‏ إلى ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ اختلف الأيمّة في كون ذلك موضع سجدة من سجود القرآن‏.‏ والذي ذهب إليه الجمهور أن ليس ذلك موضع سجدة وهو قول مالك في «الموطأ» و«المدوّنة»، وأبي حنيفة، والثوري‏.‏

وذهب جمع غفير إلى أن ذلك موضع سجدة، وروى الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وفقهاء المدينة، ونسبه ابن العربي إلى مالك في رواية المدنيين من أصحابه عنه‏.‏ وقال ابن عبد البر في «الكافي»‏:‏ «ومن أهل المدينة قديماً وحديثاً من يرى السجود في الثانية من الحجّ قال‏:‏ وقد رواه ابن وهب عن مالك»‏.‏ وتحصيل مذهبه أنها إحدى عشرة سجدة ليس في المفصّل منها شيء»، فلم ينسبه إلى مالك إلا من رواية ابن وهب، وكذلك ابن رشد في «المقدمات»‏:‏ فما نسبه ابن العربي إلى المدنيين من أصحاب مالك غريب‏.‏

وروى الترمذي عن ابن لهيعة عن مِشْرَح

عن عقبة بن عامر قال‏:‏ ‏"‏ قلت يا رسول الله فُضلت سورة الحجّ لأنّ فيها سجدتين‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما ‏"‏ اه‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث إسناده ليس بالقويّ اه، أي من أجل أن ابن لهيعة ضعّفه يحيى بن مَعين، وقال مسلم‏:‏ تركه وكيع، والقطّان، وابن مهدي‏.‏ وقال أحمد‏:‏ احترقت كتبه فمن روى عنه قديماً ‏(‏أي قبل احتراق كتِبه‏)‏ قُبل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وجاهدوا فِى الله حَقَّ جهاده هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ وَفِى هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس فَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكواة واعتصموا بالله هُوَ مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير‏}‏

الجهاد بصيغة المفاعلة حقيقة عرفية في قتال أعداء المسلمين في الدّين لأجل إعلاء كلمة الإسلام أو للدفع عنه كما فسرّه النبي صلى الله عليه وسلم «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»‏.‏ وأن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين قفل من غزوة تبوك قال لأصحابه‏:‏ «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وفسّره لهم بمجاهدة العبد هواه، فذلك محمول على المشاكلة بإطلاق الجهاد على منع داعي النفس إلى المعصية‏.‏

ومعنى ‏(‏في‏)‏ التعليل، أي لأجل الله، أي لأجل نصر دينه كقول النبي صلى الله عليه وسلم «دخلت امرأة النارَ في هِرّة» أي لأجل هِرة، أي لعمل يتعلق بهرّة كما بيّنه بقوله‏:‏ «حَبَسَتْها لا هِيَ أطعمتها ولا هي أرسلتها ترمم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً»‏.‏ وانتصب ‏{‏حق جهاده‏}‏ على المفعول المطلق المبيّن للنوع، وأضيفت الصفة إلى الموصوف، وأصله‏:‏ جهادَه الحقّ، وإضافة جهاد إلى ضمير الجلالة لأدنى ملابسة، أي حق الجهاد لأجله، وقرينة المراد تقدّم حرف ‏(‏في‏)‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏‏.‏

والحق بمعنى الخالص، أي الجهاد الذي لا يشوبه تقصير‏.‏

والآية أمر بالجهاد، ولعَلّها أول آية جاءت في الأمر بالجهاد لأنّ السورة بعضها مكي وبعضها مدنيّ ولأنه تقدم آنفاً قوله‏:‏ ‏{‏ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 60‏]‏، فهذا الآن أمر بالأخذ في وسائل النصر، فالآية نزلت قبل وقعة بدر لا محالة‏.‏

‏{‏هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ وَفِى هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس‏}‏

جملة ‏{‏هو اجتباكم‏}‏ إن حملت على أنها واقعة موقع العلة لما أمروا به ابتداء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 77‏]‏ الخ، أي لأنه لما اجتباكم، كان حقيقاً بالشكر له بتلك الخصال المأمور بها‏.‏

والاجتباء‏:‏ الاصطفاء والاختبار، أي هو اختاركم لتلقي دينه ونشره ونصره على معانديه‏.‏ فيظهر أن هذا موجّه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصالة ويشركهم فيه كل من جاء بعدهم بحكم اتّحاد الوصف في الأجيال كما هو الشأن في مخاطبات التشريع‏.‏

وإن حمل قوله ‏{‏هو اجتباكم‏}‏ على معنى التفضيل على الأمم كان ملحوظاً فيه تفضيل مجموع الأمة على مجموع الأمم السابقة الراجع إلى تفضيل كل طبقة من هذه الأمة على الطبقة المماثلة لها من الأمم السالفة‏.‏

وقد تقدم مثل هذين المحملين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏‏.‏

وأعقب ذلك بتفضيل هذا الدّين المستتبع تفضيل أهله بأن جعله ديناً لا حرج فيه لأنّ ذلك يسهل العمل به مع حصول مقصد الشريعة من العمل فيسعد أهله بسهولة امتثاله، وقد امتنّ الله تعالى بهذا المعنى في آيات كثيرة من القرآن، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏ ووصفهِ الدين بالحنيف، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «بُعِثت بالحنيفيّة السّمحة»‏.‏ والحرج‏:‏ الضيق، أطلق على عسر الأفعال تشبيهاً للمعقول بالمحسوس ثمّ شاع ذلك حتى صار حقيقة عُرفية كما هنا‏.‏

والمِلّة‏:‏ الدين والشريعة‏.‏ وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً‏}‏ في ‏[‏سورة النحل‏:‏ 123‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واتبعت ملة آباءي‏}‏ في ‏[‏سورة يوسف‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وقوله ‏{‏ملة أبيكم إبراهيم‏}‏ زيادة في التنويه بهذا الدّين وتحْضيض على الأخذ به بأنه اختص بأنه دين جاء به رسولان إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم وهذا لم يستتب لدين آخر، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «أنا دعوة أبي إبراهيم» أي بقوله‏:‏ ‏{‏ربّنا وابْعَث فيهم رسولاً منهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 129‏]‏، وإذ قد كان هذا هو المقصود فمحمل الكلام أنّ هذا الدّين دين إبراهيم، أي أنّ الإسلام احتوى على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام‏.‏ ومعلوم أن للإسلام أحكاماً كثيرة ولكنه اشتمل على ما لم يشتمل عليه غيره من الشرائع الأخرى من دين إبراهيم، جعل كأنه عين ملّة إبراهيم، فعلى هذا الاعتبار يكون انتصاب ‏{‏ملة أبيكم إبراهيم‏}‏ على الحال من ‏{‏الدّين‏}‏ باعتبار أن الإسلام حوى ملّة إبراهيم‏.‏

ثم إن كان الخطاب موجّهاً إلى الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم فإضافة أبوة إبراهيم إليهم باعتبار غالب الأمة، لأنّ غالب الأمة يومئذ من العرب المُضَرية وأمّا الأنصار فإن نسبهم لا ينتمي إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنّهم من العرب القحطانيين؛ على أن أكثرهم كانت لإبراهيم عليهم ولادة من قِبل الأمهات‏.‏

وإن كان الخطاب لعموم المسلمين كانت إضافة أبوة إبراهيم لهم على معنى التشبيه في الحُرمة واستحقاق التعظيم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏، ولأنه أبو النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد له مقام الأبوة للمسلمين وقد قرئ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏ بزيادة وهو أبوهم‏.‏

ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم على طريقة التعظيم كأنه قال‏:‏ ملّة أبيك إبراهيم‏.‏

والضمير في ‏{‏هو سماكم المسلمين‏}‏ عائد إلى الجلالة كضمير ‏{‏هو اجتباكم‏}‏ فتكون الجملة استئنافاً ثانياً، أي هو اجتباكم وخصّكم بهذا الاسم الجليل فلم يعطه غيركم ولا يعود إلى إبراهيم‏.‏

و ‏{‏قبْلُ‏}‏ إذا بني على الضم كان على تقدير مضاف إليه منوي بمعناه دون لفظه‏.‏

والاسم الذي أضيف إليه ‏{‏قبلُ‏}‏ محذوف، وبني ‏{‏قبلُ‏}‏ على الضم إشعاراً بالمضاف إليه‏.‏ والتقدير‏:‏ من قبل القرآن‏.‏ والقرينة قوله ‏{‏وفي هذا‏}‏، أي وفي هذا القرآن‏.‏

والإشارة في قوله ‏{‏وفي هذا‏}‏ إلى القرآن كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 4‏]‏، أي وسماكم المسلمين في القرآن‏.‏ وذلك في نحو قوله‏:‏ ‏{‏فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأمرت لأن أكون أول المسلمين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 12‏]‏‏.‏

واللاّم في قوله ‏{‏ليكون الرسول شهيداً عليكم‏}‏ يتعلّق بقوله ‏{‏اركعوا واسجدوا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 77‏]‏ أو بقوله ‏{‏اجتباكم‏}‏ أي ليكون الرسول، أي محمد عليه الصلاة والسلام شهيداً على الأمة الإسلامية بأنها آمنت به، وتكون الأمة الإسلامية شاهدة على النّاس، أي على الأمم بأن رسلهم بلغوهم الدعوة فكفر بهم الكافرون‏.‏ ومن جملة الناس القوم الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم

وقدمت شهادة الرسول للأمة هنا، وقدمت شهادة الأمة في آية ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً‏}‏ لأن آية هذه السورة في مقام التنويه بالدّين الذي جاء به الرسول‏.‏ فالرسول هنا أسبق إلى الحضور فكان ذكر شهادته أهم، وآية البقرة صُدّرت بالثناء على الأمّة فكان ذكر شهادة الأمة أهمّ‏.‏ ‏{‏فَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكواة واعتصموا بالله هُوَ مولاكم فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير‏}‏

تفريع على جملة ‏{‏هو اجتباكم‏}‏ وما بعدها، أي فاشكروا الله بالدوام على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله‏.‏

والاعتصام‏:‏ افتعال من العَصْم، وهو المنع من الضُرّ والنجاةُ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏، وقال النابغة‏:‏

يظل من خوفه الملاحُ مُعتصماً *** بالخيزرانة بعد الأيْن والنجد

والمعنى‏:‏ اجعلوا الله ملجأكم ومنجاكم‏.‏

وجملة ‏{‏هو مولاكم‏}‏ مستأنفة معلّلة للأمر بالاعتصام بالله لأنّ المولى يُعتصم به ويُرجع إليه لعظيم قدرته وبديع حكمته‏.‏

والمولى‏:‏ السيد الذي يراعي صلاح عبده‏.‏

وفرع عليه إنشاء الثناء على الله بأنه أحسن مولى وأحسن نصير‏.‏ أي نِعم المدبر لشؤونكم، ونِعم الناصر لكم‏.‏ ونصير‏:‏ صيغة مبالغة في النصر، أي نِعم المولى لكم ونِعم النصير لكم‏.‏ وأما الكافرون فلا يتولاّهم تولي العناية ولا ينصرهم‏.‏

وهذا الإنشاء يتضمّن تحقيق حسن ولايَة الله تعالى وحسن نصره‏.‏ وبذلك الاعتبار حسن تفريعه على الأمر بالاعتصام به‏.‏

وهذا من براعة الختام، كما هو بَيّن لذوي الأفهام‏.‏